الأونروا في مرمى النيران- تصفية حسابات أم تصفية قضية؟

يزعم بعض المراقبين أن الادعاءات الإسرائيلية حول تورط اثني عشر موظفًا من الأونروا (من بين ثلاثة عشر ألف موظف في قطاع غزة وحده) في أحداث السابع من أكتوبر، تمثل محاولة مُدبرة لصرف الانتباه، ولو بشكل جزئي، عن الأعمال الوحشية والإبادة الجماعية الممنهجة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة. بيد أن هذا الاعتقاد ينقصه الكثير من الصحة.
إن الرؤية التاريخية والإستراتيجية لدولة الاحتلال قد تركزت، في جوهرها، على مسعى حثيث ومدروس يهدف إلى فصل القدس عن الوجدان العربي والفلسطيني والمسيحي والإسلامي، وطمس حق العودة، وإلغاء القرارات الأممية التي تشير، ضمنًا أو صراحة، إلى المسؤولية الإسرائيلية عن التطهير العرقي والترويع والمذابح التي ارتُكبت في عام النكبة عام 1948، ومنع عودة اللاجئين. بالإضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى التنصل من أي التزام بتعويض اللاجئين، وإذا ما أقرّت بهذا الالتزام، فإنها تلقي بالمسؤولية على المجتمع الدولي والدول العربية لتحمل عبء هذه التعويضات، مع التأكيد على ضرورة تعويض اليهود الذين زُعم أنهم هُجّروا قسرًا من ديارهم وممتلكاتهم في دول مثل العراق ومصر والمغرب واليمن وتونس وغيرها!
إن تزامن الإعلان عن هذه الاتهامات المزعومة ضد اثني عشر موظفًا في الأونروا مع تصاعد النقاش المحتدم بشأن مستقبل قطاع غزة بعد الحرب لهو أمر بالغ الدلالة.
على مدى عقود طويلة، بُذلت محاولات عديدة، بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي، لاستغلال الأونروا كأداة للتوطين، وعندما باءت هذه المحاولات بالفشل، تحولت الجهود إلى تشويه صورة الوكالة الدولية والسعي إلى تقويضها وتجفيف مواردها المالية، واتهام موظفيها بانتهاك الحياد المفترض لموظفي الأمم المتحدة، مع التركيز بشكل محموم على مضامين "الكراهية" و "العنف" المزعومة في المناهج الفلسطينية التي تعتمدها الأونروا في مدارسها في غزة والقدس والضفة الغربية، والتي يستفيد منها أكثر من ثلاثمائة ألف طالب وطالبة من أصل نصف مليون يدرسون في مدارس الأونروا داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والأردن وسوريا ولبنان.
نجحت هذه المساعي، على مر السنين، في ترويع وإخراس الأمناء العامين الذين تعاقبوا على قيادة الأمم المتحدة، وكذلك المفوضين العامين الذين تولوا إدارة الأونروا. أما أولئك الذين تجرأوا على تحدي محاولات الترهيب والتدجين، فقد شنّت عليهم حربًا ضروسًا، كما حدث مع بيتر هانسن في أواخر القرن الماضي، حين انتقده بشدة على خلفية التدمير الممنهج لمخيم جنين في الضفة الغربية والإجراءات القمعية ضد سكان غزة، ونتيجة لمواقفه الإنسانية المشرفة آنذاك، انتهى به المطاف بالإقالة والإعلان عنه شخصًا غير مرغوب فيه.
وبالمثل، تعرض المفوض العام السابق بيير كرهنبول لحملة شعواء قبل بضع سنوات، بعد أن وقف بشجاعة وثبات أمام قرار الرئيس الأميركي السابق ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس ووقف كافة المساعدات المالية للأونروا، وأطلق في المقابل حملة دولية ناجحة تحت شعار "الكرامة لا تقدر بثمن"، وواجه بحزم محاولات تفكيك الأونروا، وخاصة في مدينة القدس، وانتهى به الأمر مجبرًا على الاستقالة بعد تلفيق تهم "جنسية" و "سوء إدارة" ضده، وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف.
واستمرت حملات دولة الاحتلال في محاولة تغيير وعي موظفي الأونروا وأكثر من خمسة ملايين لاجئ يعتمدون على خدماتها الأساسية والطارئة. تم رصد أموال طائلة لإنشاء مؤسسات وهيئات وجمعيات وباحثين ومراكز بحثية تحت مسميات مختلفة، هدفها الرئيسي هو النيل من الأونروا والتركيز، ضمن جهود متعددة، على الثلاثين ألف موظف الذين يعملون لديها، واتهامهم بانتهاك مفهوم أو مبدأ "الحيادية"، وأنهم يعبرون عن انتمائهم لفلسطين وشعبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأنهم يجرؤون على الإشارة إلى المدن والقرى التي هُجّروا منها.
عمدت هذه المؤسسات والهيئات، بإصرار شديد، إلى مهاجمة المناهج الفلسطينية التي تعتمدها الأونروا في مئات المدارس التابعة لها في غزة والضفة الغربية والقدس، متهمة المؤسسة الدولية بأنها، من خلال هذه المناهج، تحرض على "العنف والكراهية". وانضمت إلى هذا الجهد بحماسة الدول الغربية المتبرعة لصندوق الأونروا التشغيلي، مطالبة هي الأخرى بإجراء "إصلاحات".
قبل عدة سنوات، فُرض على الوكالة إدخال وتدريس مساق "حقوق الإنسان" كمادة تربوية مكملة (ومتناقضة في بعض جوانبها) للمناهج الفلسطينية المعتمدة.
وترافق ذلك مع إصدار "دليل المعلم" لتوجيه معلمي الأونروا (البالغ عددهم أكثر من ثمانية عشر ألف معلم ومعلمة) كمرافق ومساعد لهم لاستخدام ما سمي بمواد تتعلق بحقوق الإنسان واستبعاد مضامين في المناهج الفلسطينية اعتُبرت مناقضة لها! وترافق ذلك مع عقد مئات الورش والاجتماعات المكلفة ماليًا بهدف تغيير وعي المعلمين، ومن خلالهم نصف مليون طالب وطالبة، حول كيفية استبعاد مضامين ونصوص واردة في كتب التربية الإسلامية والاجتماعيات والتاريخ وغيرها، والتي قرر الكيان وداعمو الأونروا الغربيون أنها لا تتماشى مع مفاهيم حقوق الإنسان والقانون الدولي، وهي مفاهيم تم فضح زيفها وانتقائيتها خلال الحرب الشرسة على غزة.
في السياق ذاته، من المهم التذكير بقرار إسرائيلي وغربي مُدبر اتُخذ بعد النكبة وعشية الإعلان عن إنشاء الأونروا، وإصرارهم حينها على أن تكون الوكالة هيئة مستقلة وعدم إدراج اللاجئين الفلسطينيين تحت مظلة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خشية المساواة بين اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين الأوروبيين واليهود منهم بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية، ولكي لا تندرج مطالب اللاجئين الفلسطينيين قانونيًا وأخلاقيًا وسياسيًا وإنسانيًا ضمن الأطر والهيئات الدولية التي انبثقت بعد الحرب الكونية.
إذن لماذا الهجمة الممنهجة الحالية على الأونروا وتوقيتها بالتحديد؟
- الاتهامات الموجهة إلى اثني عشر موظفًا في الأونروا في غزة مبهمة ومتضاربة. لقد بدأ الكيان في التراجع عن روايته، فتارة يشير إلى وجود اعترافات ضدهم، وتارة أخرى يدعي أن الاتهام جاء بعد رصد هواتفهم والتنصت عليها. خلال سنوات عملي في الأونروا كناطق رسمي ومدير للإعلام والاتصال والتواصل على مدى اثنين وثلاثين عامًا، عانى موظفوها من اتهامات مستمرة وتلفيق للتهم والتشكيك في المؤسسة، والادعاء بأنها تعزز الاتكالية بين اللاجئين، وأنها بيروقراطية وتروج للأوهام بشأن إمكانية عودتهم، وأنها تمثل رمزًا لمطلب تجاوزه الزمن.
- يتعلق التوقيت الحالي بتوفر فرصة تاريخية سانحة لإسرائيل قد لا تتكرر للقضاء على الأونروا، أو على الأقل لإضعافها بشكل تراكمي، وخاصة عبر قطاع غزة، حيث تتواجد الأعداد الأكبر من الموظفين (أكثر من ثلاثة عشر ألفًا) واللاجئين الفلسطينيين، وحيث يتم تخصيص الحصة الأكبر من الميزانية العادية والطارئة.
- يهدف الكيان إما إلى تذويب دور الأونروا أو إنهاء وجودها في غزة بعد وقف العدوان، ومع رفع مستوى المساعدات الإنسانية والبدء بعملية إعادة الإعمار، وإيجاد كيان سياسي جديد مصمم وفقًا للرغبات والتوجهات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية.
نقطتان تستحقان الذكر في هذا السياق:
- إن القرار الأميركي والأوروبي والكندي بتعليق أو إيقاف الدعم المالي للأونروا على خلفية الاتهامات الموجهة لبعض موظفيها هو قرار خسيس يعكس نية واضحة لفرض ما يسمى "بالإصلاحات الإدارية والمالية" على عمل الوكالة.
وتأتي هنا محاولات تغيير المناهج، وإنهاء بعض الخدمات، وتفكيك الخدمات الأساسية الأخرى وترحيل بعضها إلى مؤسسات أممية أخرى كاليونيسيف واليو. ان. دي. بي، أو إلى مؤسسات مدنية أو إلى الدول المضيفة، وكلها مؤشرات على هذا الاتجاه (انظر مثلًا القرار الكندي المريب بتوفير أربعين مليون دولار لغزة، مع التأكيد على عدم توجيه دولار واحد للمؤسسة الأساسية في غزة والقادرة على توصيل المساعدات، ألا وهي الأونروا. هذا مؤشر خطير ومدروس وقياس نبض!).
تقدم الدول الغربية وأمريكا ما يقرب من خمسة وثمانين بالمائة من ميزانية الأونروا التشغيلية (وأقل من ذلك لميزانيات الطوارئ لسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة)، وهي ميزانيات هزيلة بالكاد تكفي لسد الرمق لوكالة تعاني من عجز مالي مزمن منذ عقود، ويتم استخدام هذه الميزانيات كأداة للضغط على الأونروا وتقييد دورها وخدماتها وكبح صوتها عندما تتحدث عن الانتهاكات الإنسانية والقانونية بحق اللاجئين، وعندما تتحدث عن آلة القتل والتنكيل وانتهاك المخيمات ومنشآت الأونروا، أو عندما تتجرأ الوكالة وتتحدث عن حماية اللاجئين، كما هو منصوص عليه ضمن ولاية إنشائها، أو مناصرة اللاجئين والتعريف بحقوقهم المشروعة.
هذه الدول التي أعربت عن "رعبها وهلعها" مما فعله عدد قليل جدًا من موظفي الأونروا حسب الادعاءات الإسرائيلية غير المدعومة بأدلة دامغة، هي نفسها الدول التي لم تحرك ساكنًا عندما ذُبح مائة واثنان وخمسون موظفًا لدى الأونروا (وهم موظفو الأمم المتحدة) وعائلاتهم، وهو أكبر عدد من القتلى منذ إنشاء هذه المؤسسة الأممية.
هذه الازدواجية وهذا الانفصام الواضح والمقصود بين من يسقط من الفلسطينيين بالآلاف المؤلفة، فتعتبر أرقامًا عابرة، وبين من يسقط من غيرهم فتهتز له الضمائر وتبكي عليه السماء، تفضح النوايا المبيتة والجهد المنظم الذي تبذله هذه الدول لتقييد ولاية الأونروا وإضعافها وإبقائها على حافة الإفلاس المالي، ومنعها من أي جهد يتعلق بحماية اللاجئين ومناصرتهم، والعمل على تغيير وعي العاملين والمنتفعين من خدماتها، وصولًا إما إلى تصفيتها أو تحويل ولايتها إلى مؤسسة تعمل على استيعاب اللاجئين الفلسطينيين في أماكن تواجدهم وتشجيع أصحاب الكفاءات منهم على الهجرة.
- النقطة الثانية تتعلق بقرار مجلس الأمن في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول لعام ألفين وثلاثة وعشرين بإنشاء منصب منسق لشؤون الخدمات الإنسانية وإعادة الإعمار لقطاع غزة برئاسة سيغريد القاق (زوجة دبلوماسي فلسطيني سابق). بالرغم من النية الحسنة (أو عدمها) لهذا القرار، فإن هذا الكيان الجديد/الغريب سيشرف على إدخال المساعدات وتفتيشها ومراقبة آلية توزيعها، بالإضافة إلى الملف الصعب والشائك المتعلق بإعادة البناء الذي أشرفت عليه الأونروا سابقًا بعد الحروب المتتالية على غزة وأهلها.
إذن، الراجح أن هذا الكيان سيساهم في تهميش الأونروا وحصر دورها في غزة مستقبلًا، وما يحمله هذا الوضع الجديد من تداعيات مختلفة وعلى أكثر من صعيد.
الخلاصة، تتلاقى وتتقاطع أهداف عديدة ضمن "هبروجة" ومسرحية "الأشرار الاثني عشر" واللهاث المحموم لتعليق أو إنهاء الدعم الغربي للأونروا. وهذه الأهداف هي:
- توفير فرصة ذهبية إما لشطب الأونروا في غزة بعد الحرب (وهي الرغبة الإسرائيلية)، وإن فشل هذا المسعى سيصار إلى تحييدها وتهميشها وتجفيف مواردها المالية وقصقصة أجنحتها (وهي رغبة الدول الداعمة ماليًا للأونروا وتلحق بها بعض الدول العربية!).
- إتمام عملية إضعاف الأونروا، ولسان الحال يقول: سنفرض عليكم تبني وكالة على مقاسنا كدول غربية داعمة، وسننجز مهمة تفريغ المناهج الفلسطينية المطبقة في مدارس الأونروا من محتواها الوطني (وهو جهد يبذلونه ونجحوا فيه إلى حد بعيد عندما يتعلق الأمر بالمدارس الفلسطينية في القدس)، وسنمنعكم من التحدث عن الحقوق والحماية، ونفرض حيادية على موظفيكم كما نريد، ونستقطع ما نرتئي من خدمات.
- الالتفات لاحقًا إلى إضعاف وجود الأونروا في الضفة الغربية ضمن مخطط "إعادة هيكلة وإصلاح السلطة الفلسطينية"، وأمام ضعف المؤسسات والهيئات والأطر الرسمية والشعبية التي تمثل اللاجئين، يتأتى الخوف من اختراقات إسرائيلية في هذا المضمار.
- إحكام الطوق المفروض ورفع مستوى الضغوط على الأونروا ومقرها الرئيس في القدس وإضعاف وعرقلة خدماتها لمخيمي اللاجئين الفلسطينيين الواقعين ضمن حدود بلدية القدس الكبرى: مخيم شعفاط، ومخيم قلنديا، وتمييع الخدمات المقدمة للاجئين الفلسطينيين داخل أسوار البلدة القديمة للقدس وضواحيها. النية هنا طرد الأونروا من مقرها في القدس (وكانت هناك محاولات سابقة وفشلت)، وإنهاء مفهوم وواقع وجود مخيم اسمه شعفاط ضمن نطاق "القدس الموحدة".
- وهذه النقطة الأهم: تكثيف الجهود، أو بالأحرى إتمام الجهد المتواصل منذ عقود للإجهاز على مفهوم "حق العودة"، وهو حق، للأسف الشديد، لم يعد ينادي به الكثير ممن يدعون تمثيلهم للشعب الفلسطيني!
